الموجز الاخباري لصحيفة وقع الحدث تابعنا من هنا

كتاب الرأي

الكتب… سعادة الحضارة وذاكرة التاريخ

 

منذ أن خطّ الإنسان أول حرف على ألواح الطين وأوراق البردي، كانت الكتب هي الوعاء الذي حمل أحلامه، أفكاره، إنجازاته، وخيالاته إلى الأجيال التالية. ليست الكتب مجرد أوراق وحبر، بل هي أرواح من فكر، وذاكرة من زمن، وصوت خفيّ يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.

الكتاب هو المعلم الصبور الذي لا يملّ من الشرح، والرفيق الأمين الذي لا يخون، والمرآة التي تعكس ما في العقل من أسئلة وما في القلب من مشاعر. في ظلها تزدهر الحضارات، وبدونها ينقطع شريان المعرفة، فيصمت التاريخ، ويقف العلم على أعتاب الجمود، ويتجمد الفكر والتأمل في سكون قاتل.

لقد أثبت التاريخ أن كل أمة احترمت الكتاب، قرأت، ودوّنت، وحافظت على تراثها، كانت أمة حيّة نابضة بالإبداع. فالأندلس كانت منارة للعلماء والمفكرين، بفضل مكتباتها الضخمة ومؤلفاتها المتنوعة، وبغداد في عصرها الذهبي كانت موئل الترجمة والابتكار، حتى صار الكتاب رمزًا لنهضتها. وعلى النقيض، فإن ضياع الكتب أو إهمالها كان إيذانًا بانطفاء شعلة الحضارة، كما حدث عند سقوط قرطبة أو حرق مكتبة الإسكندرية.

الكتب ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية للأمم. فهي التي تحفظ التجارب البشرية، وتوثّق الانتصارات والهزائم، وتبني الجسور بين الثقافات. من خلالها نفهم من نحن، ونعرف كيف نفكر، وأين نتجه. أما حين ينحسر حضورها، تبهت ملامح الوعي، ويحلّ مكانها الضجيج الفارغ والمعلومة السطحية.

إننا اليوم، في زمن السرعة وتدفق الأخبار اللحظية، أحوج ما نكون إلى الكتاب الحقيقي، الورقي أو الرقمي، الذي يمنحنا فرصة التأمل والتعمق بعيدًا عن الاستهلاك العابر للمعلومة. فالكتب لا تقدم لنا المعرفة فحسب، بل تهذب ذائقتنا، وتفتح عقولنا، وتربطنا بجذورنا الإنسانية العميقة.

إن الحضارة التي تضع الكتاب في قلب مشروعها الثقافي هي حضارة تعرف أن العلم بلا ذاكرة تاريخية لا يدوم، وأن الفكر بلا غذاء معرفي يذبل. لهذا، فإن الحفاظ على الكتاب ونشر ثقافة القراءة ليست مهمة المثقفين وحدهم، بل واجب المجتمع كله، حتى يبقى التاريخ ناطقًا، والعلم متحركًا، والفكر حيًا نابضًا بالإبداع.

فالكتب، بحق، هي سعادة الحضارة، وصوتها الذي لا يخبو. وبدونها، يسود الصمت، ويحل الظلام الفكري، وتتوقف عجلة التقدم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى